لثاني : أن الصلاة شرعت في مكة ، وهذا ضروري لدى جميع المسلمين ولم تعهد في الاسلام صلاة بغير فاتحة الكتاب ، وقد صرح النبي صلى الله عليه واله وسلم بذلك بقوله : " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " وهذا الحديث منقول عن طريق الامامية وغيرهم .
وذهب بعض : إلى أنها نزلت مرتين ، مرة في مكة ، واخرى في المدينة تعظيما لشأنها ، وهذا القول محتمل في نفسه وإن لم يثبت بدليل ، ولا يبعد أن يكون هو الوجه في تسميتها بالسبع المثاني ، ويحتمل أن يكون الوجه هو وجوب الاتيان بها مرتين في كل صلاة : مرة في الركعة الاولى ومرة في الركعة الثانية .
( 1 ) صرح بذلك في عدة من الروايات : منها رواية الصدوق والبخاري وسنذكرهما بعد هذا . ( * )
- ص 419 -
فضلها : كفى في فضلها : أن الله تعالى قد جعلها عدلا للقرآن العظيم في آية الحجر المتقدمة ، وأنه لا بد من قراءتها في الصلاة بحيث لا تغني عنها سائر السور ، وأن الصلاة هي عماد الدين ، وبها يمتاز المسلم عن الكافر . " وسنبين - إن شاء الله تعالى - ما اشتملت عليه هذه السورة من المعارف الالهية على اختصارها " .
روى الصدوق باسناده عن الحسن بن علي - العسكري - عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام . أنه قال : بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب وهي سبع آيات تمامها : بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلى الله عليه واله
وسلم يقول : إن الله تعالى قال لي يا محمد : " ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم 15 : 87 " . فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب ، وجعلها بإزاء القرآن العظيم وإن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش . . " ( 1 ) .
وروى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى ، قال : " كنت أصلي فدعاني النبي صلى الله عليه واله وسلم فلم أجبه . قلت : يا رسول الله إني كنت اصلي . قال : ألم يقل الله : " استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم 24 : 8 " .
ثم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ؟ فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج ، قلت : يا رسول الله إنك قلت ألا اعلمك أعظم
( 1 ) تفسير البرهان ج 1 ص 26 . ( * )
- ص 420 -
سورة من القرآن ؟ قال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " ( 1 ) .
آياتها : المعروف بين المسلمين : أن عدد آياتها سبع ، بل لا خلاف في ذلك وروي عن حسين الجعفي : أنها ست ، وعن عمرو بن عبيد أنها ثمان ، وكلا القولين شاذ مخالف لما اتفقت عليه روايات الطريقين من أنها سبع آيات .
وقد مر أنها المراد من السبع المثاني في الاية المتقدمة ، فمن عد البسملة آية ذهب إلى أن قوله تعالى : " صراط الذين أنعمت عليهم " إلى آخر السورة آية واحدة . ومن لم يعدها آية ذهب إلى أن قوله تعالى : " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " آية مستقلة .
غاياتها : الغاية من السورة المباركة بيان حصر العبادة في الله سبحانه ، والايمان بالمعاد والحشر . وهذه هي الغاية القصوى من إرسال الرسول الاكرم وإنزال القرآن ، فإن دين الاسلام قد دعا جميع البشر إلى الايمان بالله وإلى توحيده : " قل يا أهل
الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله 3 : 64 " . وأنه لا يستحق غيره لان يعبد ، فالشر - وكل موجود مدرك - يجب أن يكون خضوعه وتوجهه لله وحده . وبرهان ذلك - في هذه السورة الكريمة -
* هامش *
( 1 ) البخاري ج 6 ص 103 باب فاتحة الكتاب . ( * )
- ص 421 -
هو أن العاقل إنما يخضع لمن سواه ويعبده ، ويتوجه إليه بحوائجه ، إما لكمال في ذلك المعبود المستعان - والناقص مجبول على الخضوع للكامل - وإما لاحسانه وإنعامه عليه ، وإما لاحتياج الناقص في جلب منفعة أو دفع مضرة ، وإما لقهر الكامل وسلطانه فيخضع له خوفا من مخالفته وعصيانه .
هذه هي الاسباب الموجبة للعبادة والخضوع . وأيها ينظر فيه العاقل يراه منحصرا في الله سبحانه .
فالله هو المستحق للحمد ، فانه المستجمع لجميع صفات الكمال ، بحيث لا يتطرق إلى ساحة قدسه شائبة نقص .
والله هو المنعم على جميع العوالم الظاهرية والباطنية المجتمعة والمتدرجة ، وهو مربيها تكوينا وتشريعا .
والله هو المتصف بالرحمة الواسعة غير القابلة للزوال .
والله هو المالك المطلق ، والسلطان على الخلق بلا شريك ولا منازع .
فهو المعبود بالحق لكماله وإنعامه ورحمته وسلطانه ، فلا يتوجه الانسان العاقل إلا إليه ، ولا يعبد إلا إياه ، ولا يستعين إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، لان ما سوى الله ممكن ، والممكن محتاج في ذاته .
والاستعانة والعبادة لا تكونان إلا للغني : " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد 35 : 15 " .
وبعد أن أثبت تبارك وتعالى أنه هو المستحق للحمد والثناء بقوله : " الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين " لقن عباده أن يقولوا بألسنتهم وقلوبهم : " إياك نعبد وإياك نستعين " .
ثم أشار تعالى إلى أحوال البشر بعد إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وإتمام الحجة عليهم، وأنهم قد انقسموا إلى ثلاثة أقسام :
الاول : من شملته العناية الالهية والنعم القدسية ، فاهتدى إلى الصراط المستقيم ، فسلكه إلى مقصده المطلوب وغايته القصوى ، ولم ينحرف عنه يمينا ولا شمالا .
- ص 422 -
الثاني : من ضل الطريق فانحرف يمنة ويسرة إلا أنه لم يعاند الحق ، وإن ضل عنه لتقصيره ، وزعم أن ما اتبعه هو الدين ، وما سلكه هو الصراط السوي .
الثالث : من دعاه حب المال والجاه إلى العناد فعاند الحق ونابذه ، سواء أعرف الحق ثم جحده أم لم يعرفه . ومثل هذا - في الحقيقة - قد عبده هواه ، كما أشار سبحانه إليه بقوله : " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه 45 : 22 " . وهذا الفريق أشد كفرا من سابقه ، فهو يستحق الغضب الالهي بعناده زائدا على ما يستحقه بضلاله .
وبما أن البشر لا يخلو من حب الجاه والمال ، ولا يؤمن عليه من الوقوع في الضلال ، وغلبة الهوى ما لم تشمله الهداية الربانية ، كما أشير إلى هذا في قوله تعالى : " ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم 24 : 21 " .
لقن الله عبيده أن يطلبوا منه الهداية ، وأن يقولوا : " إهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " فالعبد يطلب من ربه الهداية المختصة بالمؤمنين ، وقد قال تعالى : " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 2 : 213 " .
ويسأله أن يدخله في زمرة من أنعم عليهم وفي السالكين طريقتهم ، كما أشير إليه بقوله تعالى : " أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية
- ص 423 -
آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 19 : 85 " .
وأن لا يسلك طريق الطائفتين الزائغتين عن الهدى : " المغضوب عليهم والضالين " .
خلاصة السورة : إنه تعالى مجد نفسه بما يرجع إلى كمال ذاته ، ومجدها بما يرجع إلى أفعاله من تربيته العوالم كلها ، ورحمته العامة غير المنفكة عنه ، وسلطانه يوم الحشر وهو يوم الجزاء ، وهذا هو هدف السورة الاولى .
ثم حصر به العبادة والاستعانة ، فلا يستحق غيره أن يعبد أو يستعان ، وهذا هو هدفها الثاني .
ثم لقن عبيده أن يطلبوا منه الهداية إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الحياة الدائمة ، والنعيم الذي لا زوال له ، والنور الذي لا ظلمة بعده ، وهذا هو هدفها الثالث .
ثم بين أن هذا الصراط خاص بمن أنعم الله عليهم برحمته وفضله ، وهو يغاير صراط من غضب عليهم وصراط الآخرين الذين ضلوا الهدى ، وهذا هو هدفها الرابع .